تحديات الشرق الأوسط الجديد- نقاط ضعف وفرص المقاومة

المؤلف: محمود عبد الهادي08.13.2025
تحديات الشرق الأوسط الجديد- نقاط ضعف وفرص المقاومة

في المقالات الخمسة الماضية من هذه السلسلة البحثية، استكشفنا بعمق الموجة المتجددة من التطبيع التي انخرطت فيها بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني. أظهرنا بجلاء أن هذه الموجة الراهنة، وما يتبعها من تحركات، تختلف جوهريًا عن المحاولات السابقة. إنها تمثل جزءًا لا يتجزأ من مخطط شامل يهدف إلى إحياء مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وفقًا للرؤية التي تجسدها "اتفاقيات إبراهيم". بعد أن قمنا بتحليل السياق العربي المعاصر الذي يواكب هذا المشروع، وتحديد الأسس التي يقوم عليها، وآليات تنفيذه، والشروط الضرورية لنجاحه؛ نختتم هذه السلسلة بمقال يتناول التحديات الجسيمة التي تعترض طريق هذا المشروع، والاحتمالات المتوقعة للمقاومة.

قد يُحالف النجاح مشروع الكيان الصهيوني في الأجل القصير والمتوسط، بيد أن المؤكد أنه لن يستمر طويلًا، فما أُسس على باطل مصيره الزوال. وإذا كان داعمو المشروع يعلقون آمالهم على الأجيال الصاعدة، فإن خصوم المشروع يعلقون آمالهم على نفس هذه الأجيال.

مكامن الضعف الجوهرية

على الرغم من الفرص الهائلة المتاحة أمام الكيان الصهيوني لإنعاش مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتوافر المقومات والشروط الأساسية اللازمة لذلك، ورغم التوافق الظرفي للسياق العربي الراهن مع الاختراق السلس للدول العربية المتبقية، فإن المشروع يحمل في طياته العديد من مكامن الضعف الجوهرية التي تمثل تحديًا بالغ الأهمية، يضاف إلى التحديات الإقليمية والدولية الأخرى. وتتجلى هذه المكامن فيما يلي:

1. غياب الشرعية الشعبية

تعتمد الاتفاقيات التي يبرمها الكيان الصهيوني مع الدول العربية على أنظمة حكم تفتقر إلى الشرعية الشعبية الحقيقية ضمن الأطر الدستورية الديمقراطية السليمة. هذا الأمر يجعل هذه الاتفاقيات عرضة للإلغاء عند حدوث تحولات سياسية جوهرية تتعارض توجهاتها مع المشروع.

2. الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني

بغض النظر عن الجهود الحثيثة التي سيبذلها الكيان الصهيوني على المستويين الاجتماعي والثقافي، ورغم التضليل الممنهج والتعتيم الذي ستفرضه الدول العربية الموقعة مع الكيان الصهيوني، لتجميل صورته وتبرير إدماجه في وعي مواطنيها وأمزجتهم ونفوسهم، فإن هذه الدول لن تتمكن من طمس التاريخ أو تحريف الحقائق الصارخة المتعلقة بعدوانية الكيان الصهيوني وجرائمه الشنيعة واغتصابه للأرض العربية الإسلامية المقدسة.

3. التعارض مع ثوابت التاريخ

في حين أن بضعة ملايين من اليهود الصهاينة يزعمون أنهم منذ آلاف السنين يكررون، سنويًا في أعيادهم الدينية، عبارة "العام القادم في القدس"، فإن أكثر من مليار ونصف المليار مسلم يرددون يوميًا دعاءهم الخالد "اللهم عليك بالصهاينة ومن والاهم، اللهم حرر الأقصى من أيدي الصهاينة الغاصبين"، حتى وإن خفتت أصواتهم أو مُنع أئمتهم من ترديدها على المنابر.

من البديهي أن يكون الكيان الصهيوني والأنظمة المتعاونة معه على دراية تامة بمكامن الضعف هذه، وسيبذلون جهودًا مضنية لمواجهتها وتقليل تأثيرها، وسيمارسون المزيد من القمع والإرهاب والتضليل والتغييب والمصادرة، ولكنهم قطعًا لن يستطيعوا القضاء عليها أو التخلص منها بشكل كامل.

التحديات الإقليمية والدولية المحتملة

إضافة إلى مكامن الضعف السابقة، يواجه المشروع تحديات جمة قد تعصف به مجددًا، كما حدث قبل ثلاثة عقود. ومن أبرز هذه التحديات:

  1. القضية الفلسطينية العادلة

إن عدم التوصل إلى حل عادل ومنصف للقضية الفلسطينية، يرضي تطلعات الشعب الفلسطيني الأصيلة، سيؤدي حتمًا إلى استمرار العمليات العسكرية المتقطعة بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية الباسلة، مما سيؤثر بشكل كبير على استقرار المنطقة برمتها، وعلى مواقف شعوبها تجاه الكيان الصهيوني الغاصب، فضلاً عن احتمالات ظهور تكتيكات عسكرية جديدة لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، قد تؤدي إلى تصعيد عسكري غير متوقع لجميع الأطراف المعنية.

2. طبيعة السياق العربي الراهن

صحيح أن السياق العربي الراهن يصب في مصلحة الكيان الصهيوني إلى حد ما، ولكنه ليس كذلك على الإطلاق. فرغم الضعف والتشرذم والأزمات المتفاقمة التي تعاني منها الدول العربية، فإنها تشكل تحديًا كبيرًا للمشروع الصهيوني من جوانب عدة، نذكر منها:

  • إن غياب الاستقرار السياسي والعسكري والأمني، نتيجة للقمع والاستبداد والفساد المستشري، يرفع مستوى التذمر والسخط الشعبي والاحتجاجات العارمة، ويجعل الدول العربية قابلة للاشتعال في أي لحظة، مع وجود تفاوت نسبي فيما بينها.
  • إن المنافسة المحتدمة على الزعامة الإقليمية، فقد تجاهل الكيان الصهيوني مكانة مصر الرائدة في صدارة الزعامة العربية، وعقد اتفاقيات مع عدد من الدول العربية التي لم تستمع إلى النصائح المصرية النابعة من تجربتها الطويلة مع الكيان الصهيوني، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الداخلية بين دول المنطقة.
  • إن الأدوار التحريضية التي يقوم بها الكيان الصهيوني مع دول الجوار الإقليمي ضد الدول العربية، كما هو الحال مع إثيوبيا والهند.

3. دور القوى الإقليمية المؤثرة

تشكل كل من إيران وتركيا تحديًا كبيرًا للمشروع الجديد. فأي تصعيد عسكري ضد إيران سيؤدي إلى سيناريوهات معقدة وعاصفة، قد تخرج عن نطاق التوقعات. وفي المقابل، أصبحت تركيا لاعبًا أساسيًا في المنطقة العربية، تربطها علاقات إستراتيجية متينة مع عدد من دولها، وتساعدها في ذلك النجاحات العسكرية والتكنولوجية التي حققتها في السنوات الأخيرة. ولن تسمح تركيا لهذا المشروع بتجاوزها أو تشكيل تهديد لمصالحها السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية.

4. مظاهر التنافس الدولي المحتدم

يمثل مشروع الشرق الأوسط الجديد نقطة التقاء مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة في منطقة إستراتيجية حيوية متعددة الجوانب، لا تخص الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية وحدهما، بل تخص اللاعبين الكبار الآخرين، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، إضافة إلى روسيا والصين، اللتين تخوضان مع الولايات المتحدة صراعًا وتنافسًا محتدمًا، لا يزال معظمه تحت السطح، ولا يظهر لنا سوى قشرته الخارجية. هؤلاء اللاعبون الكبار لن يسمحوا للولايات المتحدة بالاستفراد بتخطيط مشروع الشرق الأوسط وتنفيذه من دونهم، كما فعلت في رعاية الموجة الثالثة من موجات التطبيع، والموجات التي ستليها.

5. تحديات تمويل المشاريع الضخمة

إن المشاريع الاستثمارية المفترض إقامتها في الشرق الأوسط الجديد هي مشاريع عملاقة، وتحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، لا تستطيع موازنات الدول العربية توفيرها بمفردها، مما سيفتح الباب واسعًا أمام الدول المستثمرة والشركات عابرة القارات للدخول والاستثمار مقابل ضمانات دولية قاسية، تلزم الدول العربية المنخرطة في المشروع بالمحافظة على أمن الاستثمار، والالتزام طويل الأمد بالاتفاقيات التي يتم التوقيع عليها، وهذا لن يتم إلا بمشاركة الدول الكبرى بقواتها العسكرية في حماية استثماراتها واستثمارات شركاتها برًا وبحرًا وجوًا.

ولمواجهة هذه التحديات الجسيمة، سيؤخذ بالحسبان القيام -دون تهاون- بالعديد من الإجراءات، من قبيل:

1. توقيع الدول العربية المشتركة على "اتفاقيات إبراهيم"، وإلزامها بالعمل الفوري بمقتضاها، وإحداث التغييرات اللازمة في المجالات الإعلامية والتعليمية والفكرية والثقافية والدينية، وتحويل اتفاقيات إبراهيم إلى ثقافة سائدة في المنطقة، تضبط المناهج التعليمية والعمل الإعلامي والتواصل الاجتماعي والنشاطات الإدماجية المشتركة.

2. تحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة، وحل الأزمة السورية والأزمة اليمنية والأزمة السودانية، وإدخال تلك الدول جميعًا في المشروع باعتبارها دولاً مرشحة لتكوين جماعات مناهضة له في المستقبل.

3. الوصول إلى تسوية سريعة للقضية الفلسطينية، وإلزام القيادة القادمة باتفاقيات دولية تمنعها من القيام بأي أعمال من شأنها زعزعة الاستقرار.

4. وضع تصورات مشتركة بين الولايات المتحدة واللاعبين الكبار الآخرين، إلى جانب الكيان الصهيوني ودول المنطقة، لضمان أمن المشروع والاستثمارات الضخمة التي ستوضع فيه برًا وبحرًا وجوًا.

5. تضييق الخناق على الجماعات الإسلامية والقومية المعارضة للمشروع، وإصدار تشريعات إضافية ذات صفة دولية تضعها تحت طائلة القانون عند قيامها بأي ممارسات تضر بمصلحة المشروع.

6. ضخ المزيد من الكوادر الليبرالية العربية التي يتم إعدادها في مصانع قادة المستقبل لدى الدول الغربية، وتمكينها من قيادة المؤسسات التنفيذية في الدول العربية.

مقاومة المشروع الصهيوني

يبدو أن احتمالات مقاومة المنطقة العربية لمشروع الشرق الأوسط الجديد في الوقت الراهن ستكون محدودة وضعيفة، وغير قادرة على إيقافه أو إعاقة تقدمه، ومن أسباب ذلك ما يلي:

  • هيمنة الأنظمة الشمولية القمعية وغياب المؤسسات النيابية الحقيقية المعبرة عن إرادة الشعب.
  • شدة القمع والإرهاب ومصادرة حرية الرأي والتعبير، وهيمنة الإعلام ذي الصوت الواحد.
  • تعديل المناهج التعليمية في العديد من الدول العربية، بما يتوافق مع مبادئ "اتفاقيات إبراهيم"، وتنشئة الأجيال عليها.
  • رفض الأنظمة الحاكمة لأي فعاليات شعبية أو فئوية تعارض المشروع المشبوه.
  • انشغال مؤسسات الدولة الرسمية بالترويج للمشروع، وغياب أي مراجعة علمية للمخاطر والنتائج السلبية المحتملة.
  • انشغال معظم دول المنطقة بأزماتها الداخلية السياسية والاقتصادية والأمنية، عما يدور في الإقليم أو العالم، مثل سوريا واليمن والعراق وليبيا والسودان وموريتانيا والصومال ومصر والسعودية ولبنان وتونس والجزائر.
  • عجز القضية الفلسطينية عن ضخ المزيد من الزخم لإشعال الشارع العربي لنصرتها من جديد، وإعلاء مكانتها على غيرها من القضايا.
  • قيام العديد من دول المنطقة بتجريم جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وانكفاء أفرادها على أنفسهم، وانحسار فعالياتهم المناهضة للتغلغل الصهيوني.
  • هيمنة المؤسسات الدينية الحكومية على شؤون التوجيه الديني في المساجد والمحاضرات والمنابر الإعلامية، وهي جميعها تؤيد النظام الحاكم وتصدر له ما يحتاحه من الفتاوى، وتقدم له ما يطلبه المقام من الدفاع والتبرير.
  • ضعف الأصوات المعارضة من خارج المنطقة العربية في وجه الآلات الإعلامية الشرسة التي تمتلكها الأنظمة الشمولية.

ومع وجود هذه الأسباب المثبطة، فإن أنظمة الدول الشمولية بكل ما لديها من أدوات قمع وإرهاب، لن تتمكن من تحقيق ما يلي:

  • تغيير الحقائق الدينية الثابتة.
  • إلغاء التاريخ الموثق وإقناع الأجيال بمشروعية الكيان الصهيوني المصطنع.
  • خنق الأصوات الوطنية الحرة الرافضة للمشروع.
  • شطب الحركات الإسلامية الكبيرة وإلغاؤها من الوجود، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
  • الاستمرار في التضليل والتعتيم إلى ما لا نهاية، لأن عمر الباطل قصير.
  • تجنب الهزات والانتكاسات المفاجئة.

وهذا يعني أن المشروع قد يحقق بعض النجاحات على المدى القصير والمتوسط، ولكن المؤكد أنه لن يكتب له النجاح على المدى البعيد، لأن ما بني على باطل فهو باطل، وإذا كان عرابو المشروع يراهنون على الأجيال القادمة، فإن معارضي المشروع يراهنون أيضًا على تلك الأجيال الواعدة نفسها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة